حوار مع محمد سمير ندا المرشح للقائمة الطويلة
18/02/2025

متى بدأت كتابة رواية "صلاة القلق" ومن أين جاءك الإلهام لها؟
وُلدتْ فكرةُ الرواية في نهاية عام 2017، بدأَتْ قصيدةً، ثم تحوّلَتْ روايةً قصيرة (نوفيلا)، ثمّ روايةً ضخمة عدتُ إليها بالشطب والمحو حتّى استقرَّتْ على النحو الذي نُشرت عليه، فالقلق الذي تلبّس بشخصيّاتها كان يسكن الكاتب ويسكن النصّ وهو يتقلّب بين الأجناس الأدبيّة (شعر/قصّة/رواية) وبين الأنظمة الدالّة (موسيقى/كتابة...). لذلك كانت رحلتي معها رحلة تعلّم بالأساس باشرتُها شعرًا وأنا أردّد في سرّي قول الجاحظ "لا خير في لفظٍ لا يعبّر عن معناك"، ثمّ اكتشفت أنّ المعاني غير "مختلّجة في النفوس" حسب عبارة أبي عثمان، فرحت أبحث عنها في قصص الناس على قارعة الطريق، فلم أجدها، وهكذا بدأتُ أفهم أنّ المعنى بل شبَحَه يقيم في الطيّة المنغلقة على الذات والمنفتحة على الخارج في آن واحد، وأنّ عليّ ابتناءه لا نَقْله، وجعلتُ شعاري قولَ موريس بلانشو "تفاجئني كلماتي وتعلّمني فكري" معتذرًا إلى جدّي الجاحظ. فكيف أقول واقعًا عربيًّا مسكونًا بالقلق والخوف من المجهول؟ وهل ثمّة حقيقة شفّافة واضحة أم أنّ الحقيقة نفسها خيالٌ تمّ تكريسه كي يُصبح واقعًا؟ أليست الحقيقة ما يُفرض كرهًا على الوعي الجمعيّ؟ كيف تتحوّل نكسة 1967 إلى نصر؟ وكيف تصبح المقاومة يوتوبيا؟ وما هي وظيفة الكاتب إزاء هذا الحمل الثقيل؟
عند هذه النقطة، وجدت نفسي أمام مسارين: مسار مواجهة الحقائق بأضدادها وهو مسار شاقّ مُضنٍ لا قدرة لي على تحمّله، ومسار مجاراة تلك الحقائق والسخرية منها. وقد وجدت هذا المسار أقرب إلى الفنّ، فحاولت إنشاءَ إطارٍ فانتازيٍّ يزاوج بين التاريخ الحقيقي المُوثّق، والخيال المحض، ومن هذه المزاوجة تشكّلت هذه الرواية ذات الطابع الديستوبي رغم أنّ فضاءها الزماني يرتدّ إلى زمن النكسة. ومن هذه المزاوجة خلصتُ إلى أنّ الكتابة شأنها شأن الحقيقة تُبنى باللّعب، ولكنّه لعب على حافة الهاوية.
هل استغرقت كتابة الرواية مدّة طويلة؟ وأين كنت تقيم عند إكمالها؟
أنفقتُ أربع سنوات وأنا أطارد هذا النصّ، وكلّما خِلْتُه استقرّ على شكلٍ وبدأ يلين، ألفَيْتُه مستعصيًا متفلّتًا حتّى بلغ عدد المسوّدات سبع مسوّدات أو ثماني. ولعلّني كنتُ أتعمّد إرجاءه دون وعي لما كان يوفّره لي من متعةٍ هي جوهر الإبداع عندي بوصفه لعبًا يقوم على الكتابة بالممحاة. ربّما كنتُ أنانيًّا في احتكار تلك المتعة، وربّما كنت مرتعبًا من فكرة نقلها إلى الآخر، كأنّك تنتزع قطعةً من كيانك وتضعها في متحف للفرجة. لذلك حين أدركتُ المسوّدة الأخيرة سلّمته إلى بعض الأصدقاء من الثقات وبدأتُ تجربة التلصّص عليه من بعيد، وأنا أرى أثره في عيونهم وملاحظاتهم سلبًا وإيجابًا. وقد أفادتني تلك المسافة كثيرًا في العودة إليه في ما بعد بأكثر من عين. وفي الأخير تشجعت وأرسلته إلى أكثر من ناشر لم يردّ عليّ بغير الصمت والنسيان. هل تألّمتُ؟ لا أذكر. ولعلّي كنت أستمتع بذلك النسيان وأنا أردّد قول الكاتب التونسي محمود المسعدي على لسان بطله غيلان في مسرحيّة السدّ: "إنّك إذا أتممتَ الفعل قتلتَه"، ولعلّ المفارقة ههنا أنّ الردّ جاء من تونس لقَتْل ذلك الفعل ووضع حدّ لرحلة هذا النصّ. ففي أحد الصباحات الربيعيّة وردتني رسالة غريبة من الأستاذ شوقي العنيزي صاحب دار ميسكلياني يطلب منّي فيها صورة من جواز سفري، لم يُطفئ دهشتي منها إلّا السطر الأخير من الرسالة الذي يبرز فيه السبب من هذا الطلب وهو إعداد عقد النشر، دون أن يذكر عبارة الموافقة على نشر العمل في تلك الرسالة، وكأنّه دخل اللعبة هو الآخر لتحويل مسارات المتعة واللعب. وهكذا انضاف إلى عمر المسوّدة عام كامل من التحرير والتشذيب مع الناشر. وهكذا انفتحت الدائرة بالربيع وانغلقت عليه. وحتّى مكان كتابتها فقد كان دائريًّا هو الآخر، لأنّني بدأتُها في القاهرة وختمتها بها.
هل لديك طقوس للكتابة؟
أعشق الصمت، وأرى الفنّ الفعل الوحيد الذي يحقّ له أن يجرح الصمت سواء في الموسيقى أو في الكتابة وأنا أصغي إلى نقرات الأصابع على "الكيبورد". الكتابة تشترط الهدوء، ولعل انتزاع بضع لحظات من الهدوء اليومَ، في ظلّ الإيقاع المتسارع للحياة -الذي لا يمنح المرء مهلةً لترتيب أفكاره أو للفوز ببعض السكينة والسكون- هو التحدي الأعظم، تمامًا كالقراءة، لأنني أعدّ نفسي بالأساس قارئًا يهوى الكتابة، لذلك فطقوس الكتابة لدي (وكذلك القراءة)؛ مرتبطة بما يتوفّر لي من العزلة والهدوء لا أكثر، وهو ما أحاول انتزاعه من صخب الحياة اليومية، ولو لفترات قصيرة بعضها لا يتعدى الدقائق العشر، ولكني أصرّ على الحصول عليها.
ما هو مشروعك الأدبي بعد هذه الرواية؟
الأضواء التي سلّطها إدراج روايتي في القائمة الطويلة لهذا العام، ما تزال تربكني وتسبب لي الحيرة، بالأساس؛ لديّ رواية قيد الكتابة، تتناول فترة زمنية تمتد بين عامي 1914 و2013، وتتنقّل أحداثها من تركيا إلى العراق ففلسطين ثم مصر، ولديّ مشروع آخر أعمل عليه بالتوازي، تدور أحداثه في إطار ديستوبي عام 2152، ولكن درج الأعمال المؤجلة لدي، يحوي عدة أعمال انتهيت منها خلال السنوات العشر الأخيرة ولم تُنشر، سواء لعدم وجود ناشر جريء يقبل بنشرها كما هي، أو لضعف قناعتي الشخصية بجاهزية هذا النص أو ذاك للنشر، روايات ونوفيلات، وكتاب نثري أكتبه لابنيّ كي أتقرّب منهما أكثر، ولعلّي أكتبه كي يتقرّبا منّي ويُدركا يومًا ما كان يجول في ذهن أبيهما الصموت. باختصار لديّ مشاريع كثيرة غير مكتملة، لم أقرر بعد مصير أيَ منها، أثق فقط بأنّي أستمتع بالكتابة، وبأنّ النشر سيظلّ آخر ما يشغلني.