حوار مع رجاء عالم المرشحة للقائمة القصيرة
25/04/2024
أين كنت وقت إعلان القائمة القصيرة للجائزة؟ وماذا كان رد فعلك؟
وصلني الخبر حين كنت في مدينة لوز سانت سوفور، لوز تعني الضوء وهي المدينة بين جبال البرانس والتي تشع بضوء خاص قال عنه الكاتب الفرنسي فيكتور هيجو أنه شق الضوء الذي يقود القادم من بين ظلمات الوديان بين تلك الجبال الشاهقة.
من المفارقة القول بأن القائمة القصيرة قد جاءت مثل فصل ينضم لفصول روايتي، باهبل الذي يبدو أنه قد فشل في حمل حكاية عماته لعرضها كفيلم في مهرجان البندقية السينمائي قد نجح الآن في حملها لقوائم الجائزة العالمية للرواية العربية ال IPAF، تخيلت نوري يعانق عماته و يهنئهن على قدرتهن في توصيل عالمهن الساحر لما يتجاوز حدود مدينة أو بلد بعينها.
استجبت لفرحة باهبل و عماته الطفولية و قمت ببعث رسالة على صفحته في الفيس بوك مازحة، "هَبلك طَنْطَنَ." بمعنى "صار لجنونك صدى".
و لا أعرف إن كان بحاجة لاستلام رسالة في الفيس بوك حين بوسعه استلامها من وسائط الغيب المباشرة حيث هو الآن. لكنني كنت بحاجة لبعث رسالة ملموسة لأؤكد لنفسي و لمن يخوض نفس تجربة الهبل أن : "لاشيء يموت، و حين تنطلق الكلمة فلا راد لها".
أحد الشخصيات الرئيسية في الرواية له أكثر من اسم: عباس/نوري/باهبل. ما أهمية تعدد الأسماء في تكوين شخصيته وفي دوره في الرواية؟
وجود باهبل في الرواية و الحياة بالدرجة الأولى هو تحدٍّ للسائد، و ذلك من خلال انتصاره لحقيقته و لنوازع روحه، فاجأني ككاتبة بحاجته للتقلب في الهويات لينفذ في الطرق المسدودة بتعصب البطريركة، هو أشبه بالكشاف الذي ينفذ لماوراء الظاهر ليصل لاكتشاف الأغوار الجمالية و السحرية لذاته و لتلك التي بلغتها عماته من خلال خضوعهن الظاهر لقوالب تقليدية، باهبل هو جسر بين الظاهر الموحي
بكونه سلبي و الباطن الذي تنضجه العزالة، عين باهبل تتقصى لنا أين يكمن اللهب أو الشعلة التي جاءت بها الروح حين تجسدها، نكتشف بعين باهبل الكشافة أن الظروف القاهرة التي خضعت لها عماته لم تنجح في إطفاء تلك الشعلة بل و ربما أججتها، باهبل يعيد الاعتبار للسحري المفقود في عالمنا، هو كمن يعيد سحر العالم.
أنا نفسي اتأمل في تعدد الهويات هذا (باهبل نوري عباس)، يجعلني أعي هذا الانشطار النفسي و الروحي الذي يخوضه الإنسان عند تَجَسده في عالمنا الأرضي، هذا الإختبار الثلاثي الذي تختاره الروح لتفعيل رسالتها الوجودية ، هذه الجبهات أو التيارات التي تتنازعنا كبشر بمجرد الولادة، تيار نوازعنا الفطرية العميقة أو(اللاوعي اللامشروط/ الخام the plastic unconscious) و تيار (اللاوعي المشروط the conditioned unconscious ) المدموغ ببرمجة قوانين الأهل و المجتمع، و بالتالي التيار الذي يحرضه التفاعل بينهما، هذا الثمن أو التضحية التي تتطلبها الجرأة على التميز.
بطل الرواية هو التجسيد لهذه التيارات، نوري هو هذا النزوع الخام الذي يشع من توق الروح، بينما عباس هو القناع الذي نستجدي به قبول المجتمع، بينما باهبل هو تجسد الحيرة أمام أصحاب التميز، الحيرة التي تقود لإسقاط تسميات التصغير و الإتهام بالجنون، أهبلٌ مجنونٌ هو من يجرؤ على تفعيل حياته من منطلق مغاير، من يرى الحياة بمنظاره الذاتي لابمنظار الآخرين استجداءً لاعترافهم و رضاهم.
تلك الأسماء الثلاثة هي الإنسان في نضاله للوجود بمعادلة مغايرة للمألوف، هو هذا التوتر بين الاستسلام للقوالب المُحَنِّطَة أو الخروج عليها.
باهبل لايفضح مشكلة شخصية و إنما مشكلة عالمنا اليوم، ترعبنا الحروب و الإبادات و نتظاهر ضد تهديد كوكب الأرض بالدمار و ما تلك إلا أعراض لمرض كمين داخل الفرد، هذا الفصام الذي يحدثه التماهي بالقناع the persona الذي يفرضه علينا الآخرون، قناع يخنق فطرية الروح و بالتالي يقود لدمار الخارج.
في الرواية عباس فنان يحاول صنع فيلم عن حياة عماته، الأمر الذي يعترضن عليه ويعتبرنه فضيحة. في رأيك كروائية، أين يقع الخط الفاصل بين الحرية المطلقة في الإبداع واحترام خصوصية الأفراد؟
لم تكن معادلة رفض بقدر ما هي معادلة تواطؤ بين عباس و عماته لإنجاز هذا الفيلم، اعتباره كفضيحة جاء من نظرة البطريركة المتسلطة و الحريصة على التكتم و الإخراس، التسجيل و التوثيق تم بموافقة العمات و إن كن محرجات لجرأتهن، لكن يمكن القول بأنه حرج طفيف لم يمنعهن من الاستسلام لإثارة كونهن بطلات في فيلم، بطلات لايمثلن إلا حياتهن، حياتهن هي السحر و هن الساحرات، من يقرأ الرواية يدرك هذا التجلي الذي حفزته كاميرا باهبل، بنات السردار و بالذات نورية و سكرية تجلين و أبدعن أمام الكاميرا التي دغدغت غرورهن و ربما شفت بعضاً من جروحهن.
تتداخل في الرواية عوالم متناقضة حيث تنتقل ببراعة من عالم الواقع لعالم الخيال وعالم الأحياء لعالم الأموات حتى أن بعض الوقت لا يكون القارئ متأكد من أيهما حقيقي. لماذا اخترتي هذا الاسلوب في السرد؟
حقاً أيهما الحقيقي؟ هو السؤال الأبدي.
و حين لايتأكد القاريء أي تلك العوالم حقيقي فما ذلك إلا تأكيد بأننا نخوض في منطقة يحرسها الشك إذ لاشيء فيها مؤكد، من بوسعه القول أي العوالم هو الحقيقي على الإطلاق؟ أفلاطون توصل لحقيقة الكهف و الأخيلة على جدار ذلك الكهف التي تعتقد بأنها تمثل الحقيقة المطلقة.
عادة لست أنا من تختار، و إنما الشخصيات تقود رواية ذواتها، لكن و بالذات باهبل أجد صعوبة في تجنيسها كراوية بمعنى صياغة رواي محترف. هنا بوسعي القول إن باهبل ليس سرداً اخترتُ فنونه و إنما هو حياة اندلعت بين أصابعي، حياة في عمق الحياة حيث لاحد بين عالم الظاهر و عالم الغيب.
يحتل الموت مكانة بارزة في الرواية. بين الشخصيات التي تموت ثم تظل موجودة وأخرى توأد دون أن تموت، حدثينا عن كيفية تناولك لفكرة الموت.
ماهو هذا الموت؟ و من بوسعه تناول الموت كفكرة؟
ليس لدي إجابة و إنما مجرد تساؤلات.
إذ يظل الموت فصلاً من فصول رواية تعجز عقولنا عن إدراك أين بدأت و لا أين تنتهي.
أحب تخيل الإنسان بصفته المحيط اللانهائي الذي يبدأ بالمنظور و يتمدد للخفاء، نحن لحظة موتنا و لحظة ولادتنا كما أننا هذه اللحظة الحالية، لكن ليس بوسع آلية العقل المحدودة أن تدرك هذه القطرة، و هو ما يشغلني و يشغل كتاباتي دوماً، دوماً روادني بأن الحلم هو امتداد كما الموت امتداد و أن بوسعنا بالصمت و بالتأمل و بالغوص في لحمة الحياة بوسعنا التنقل و السياحة بين ما نتعارف على تسميته الحياة و الموت، هي قناعة ولدت بها و تستدرجني أبعد و أبعد.
ضمن تساؤلاتي: تلاشي المتجسد أهو خاتمة؟
نحن لانموت، الموت بمعنى التلاشي، اكتشفت ذلك بتجربتي مع الموت، موت امي و موت أخي نبيل.
نتخيل حواجز بين العالمين، نتخيل حواجز بيننا و بينهم الذين ماتوا لنا، بينما الكل في الواحد.
الموتى يرافقوننا، نجدهم في لعاب الأطعمة التي عودونا عليها و في حرارة لمسات أيديهم و أحضانهم التي تظل تبرق في لاوعينا و تمنحنا القوة حين نتهاوى، يلتقوننا في نومنا شذرة هما و لمسة هناك، راوئحهم أيضاً ترجع في روائحنا و في عاداتنا التي تنسخهم دون وعي منا.
الموت رفيق الحياة الأخلص، نموت كل ليلة موتة صغرى و نحيا مع الصباح، في الموتة الصغرى تتفوق الأحداث و الحبكات على أعتى الأخيلة الروائية.
أسئلة لا تنتهي و ربما لا نريد لها إجابة بحيث نمضي في المجهول حتى يلتقينا دون تخطيط منا، حينها لاحاجة للتخمين، حيث سنكون تلك الحقيقة، حقيقة الموت الذي لاموت فيه.
من هم الكتّاب الذين أثروا فيك كروائية؟
من الصعب حصر الروافد التي ساهمت في بنائي الإنساني و ليس الروائي فقط، في صلبي المعرفي ما وقع تحت يدي من النتاج الفكري، من كتب الفنون و الفلسفة و علوم الطبيعة، أتأثر و أستلهم كل ما يدب حولي ابتداءً من المجلات الدارجة و أعلانات الطرق و تجليات الطبيعة و انتهاءً بأحاديث من ألتقيهم و هي معين لا يُستهان بخصوبته.
لكن و كبداية بوسعي القول بأنني تأثرت بموسيقى و قصص القرآن و من ثم رواد التصوف مثل النفري و السهروردي و ابن عربي و فريد الدين العطار و ابن الرومي، و يتبع ذلك افتتاني بمؤلفي العجائب القدامي مثل القزويني و بعضاً من رواة العصر الحديث بآسيا مثل غوركي و دستوفيسكي و كاواباتا الياباني، و بالطبع الأثر الأهم لأدب أوروبا انجلترا بالذات من خلال دراستي للأدب الإنجليزي، و انغماسي ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ في عمق روايات د. اتش. لوارنس و فيرجينيا وولف، و جحيم دانتي و تجليات الألماني ريلكه و طواحين هواء الإسباني سيرفانتس و زهور شر الفرنسي بودلير و زمن بروست الضائع و قصائد مالارميه و غيرهم، وأيضاً انفتاحي المبكر على آداب أمريكا اللاتينية من خلال نتاج بورخيس و استورياس.
بالنهاية كل لحظة من لحظات الحياة هي رواية تلهمنا.
ماذا تقرأين الآن؟
حالياً تستهويني كتبٌ لا علاقة لها بالأدب و إن كانت تستوحي الأساطير و أثرها في البناء النفسي، فمثلاً أتنقل بين كتابين:
Trauma and the Soul للمعالج النفسي Donald Kalsched
و كتاب
The Soul Speaks للفلكي و الباحث الروحي Mark Jones .