حوار مع عيسى ناصري المرشح للقائمة القصيرة

10/04/2024

أين كنت وقت إعلان القائمة القصيرة للجائزة؟ وماذا كان رد فعلك؟

     كنت في العمل، سررت بالخبر، وأدركت أن المسؤولية كبرت، وأن "الفسيفسائي" بصدد تسجيل حضورٍ مشرّف، لي ولبلدي، بالمرحلة النهائية للجائزة في هذه الدورة.

حدثنا عن البحث التاريخي الذي سبق كتابة رواية "الفسيفسائي".

     أول ما بحثت فيه كان فن الفسيفساء القديم. عدت إلى دراسات حول هذا الفن العريق أبرزها كتاب "فنّ الفسيفساء الروماني" للدكتورة عبير قاسم. بعدها عثرت على دراسة مهمة أنجزها الدكتور أبو بكر سرحان بعنوان "المقاومة الوطنية المورية للاحتلال الروماني"، لأقوم بعد ذلك بإطلالة على تاريخ الإمبراطورية الرومانية من بوابة كتابين هما "الامبراطورية الرومانية من النشأة إلى الانهيار" و" تاريخ الامبراطورية الرومانية السياسي والحضاري". هذا إلى جانب دراسات و مقالات تاريخيّة عديدة أفادتني في التعرف على أسلوب الرومان قديما ونمط الحياة في المستعمرات الرومانية. المراجع هذه لم تعطني كل شيء، إذ اضطررت إلى الاطلاع على أفلام صوّرت الحقبة الرومانية مثل سبارتاكوس وبين هور المذكورين في الرواية.

تتكون "الفسيفسائي" من ثلاث مخطوطات مشكلة رواية فسيفسائية يقرؤها الشرطي مراد الشرادي. حدثنا عن التخطيط للعمل وتشكّل حبكتها.

الفكرة كانت؛ تناولُ فنّ الفسيفساء بناء وموضوعا. والتخطيط الأوّلي الذي تبادر إلى ذهني كان كتابةَ ثلاث مخطوطات وتقطيعها، وترتيب القطع (المقاطع)، بالتناوب، على شكل ضفيرة، مراعيا خطّية الزمن في كل مخطوطة. بدأت الاشتغال وفق هذا المخطّط بكتابة "الفتى الموري"، الرواية التاريخية النواة، التي ستتمخض عنها المخطوطتان الأخريان؛ "ليالي وليلي" ثم "باخوس في العيادة". ارتأيت فيما بعد أن أضيف ملحقا بقلم الفسيفسائي (تهامي الإسماعيلي)، وهو ملحق ميتاسردي أسعفني في تسليط الضوء على ظروف تشكل الرواية الجامعة (الفسيفسائي). وكنت حريصا أن أجعل كل رواية تتمخض عن رواية أخرى، مع جعل أبطالها كتّابا يكتبون بعضهم؛ نوال الهناوي تكتب عن تهامي الإسماعيلي، وتهامي يكتب عن أريادنا نويل، وأريادنا تكتب جوادا الأطلسي، وجواد يكتب الفتى الموري. وعندما اكتملت اللوحة الفسيفسائية كان ضروريا أن توضع في إطار، حينها فقط، فكرتُ في التأطير البوليسي، وهو آخر ما كتبت على شكل "مستهلّ" و "نهاية".

لماذا اخترت أن تكون إحدى الشخصيات المحورية كاتبة أجنبية، وما أهمية الآخر في الرواية؟

إن استدعاء شخصيات مثقفة تقرأ وتكتب فرضته عليّ تيمة الكتابة التي شغلت مساحة هامة في الرواية. وقد اخترت أن يكون أحد الكتاب في الرواية أجنبيا لأسباب أولها تعزيز البعد الكوني لروايتي بإقامة حوار مع الأجنبي والانفتاح على تجاربه في الحياة والأدب والفن. السبب الثاني اخترتها لخدمة خاصية التعدد التي تقوم عليها الرواية وهو، هنا، تعددٌ ثقافي، وتنوعٌ في اللغة والهوية والانتماء والجغرافيا. وثمة سبب آخر هو محاولة تصحيح تلك الصورة النمطية الباهتة التي يسوق لها الإعلام الغربي في ربورتاجاته وأفلامه وآدابه عن المغرب، إذ جعلت هذه الكاتبة الأجنبية ترى مغربا آخر، مغربا مثقفا يقرأ، مغرب المثقفين والفنانين ومتذوقي الفنون، بلد المواهب والكتّاب المُجيدين، بلدا منفتحا على اللغات والثقافات الأخرى.

ما هي دلالات أحلام جواد في الرواية؟

شغّلت الحلم أداةً لبناء عوالم نص "ليالي وليلي". توسلت به لإضفاء ملمح فنتاستيكيّ على هذه المخطوطة الروائية الضمنية. ومن دلالات الحلم في الرواية أنه يعكس عالمنا القائم على الشك والاحتمال والتناقض والاختلاف والممكن والمستحيل. فهذه الأحلام التي يراها جواد تؤسّس  للايقين بدل اليقين، وللتعدد والاختلاف والمغايرة بدل الوحدة والتماسك، وللغرابة بدل الألفة.  كما أنها أحلام تضيء وتكشف مناطق مظلمة وسرية في حياة الكاتب جواد ونفسيته، بحيث سيكون لتلك الأحلام الملتبسة انعكاس على إبداعه، لدرجة استلهامه لها في كتابة روايته "الفتى الموري".

نسافر في الزمان في "الفسيفسائي"، ولكننا نبقى في مكان واحد. حدثنا عن أهمية المكان والفضاء المحلي في الرواية.

الفضاء الروائي الأساسي توزّع بين أمكنة متقاربة جغرافيا هي وليلي ومولاي إدريس زرهون ومكناس. اخترتها بالإضافة إلى تقاربها، بسبب ما تحمله من غنى حضاري وتاريخي، فمدينة وليلي بموقعها الأثري الأشهر وأطلالها وفسيفساءاتها وبقايا أبنيتها، تقف شاهدة على تاريخ الاحتلال الروماني لموريتانيا الطنجية. ومولاي إدريس زرهون، التي لا تفصلها عن وليلي سوى ثلاث كيلومترات، كانت عاصمة أول دولة إسلامية بالمغرب مستقلة عن المشرق، هي دولة الأدارسة التي أسسها المولى إدريس الأول في القرن الثامن الميلادي. هذه البلدة كانت مسرحا لشخصيات روايتي ليالي وليلي و مذكرات باخوس في العيادة، فضاء غني خدم النص كثيرا، وأتاح خلفية جمالية مناسبة للأحداث. أما مكناس فقد كانت عاصمة للمملكة في فترة حكم المولى اسماعيل وهي حاضرةٌ زاخرة بمآثر تاريخيّة كثيرة أتيتُ على ذكر أبرزها في الرواية.

ماذا تقول "الفسيفسائي" عن الكتابة بشكل عام والسرقة الأدبية بشكل خاص؟   

الكتابة، حسب "الفسيفسائي"، ليست، في جوهرها، سوى تجميع غير واقعي لعناصر واقعية؛ فكتابة حكايةٍ، مثلا، لا يختلف عن عملية رصف مكعبات ملونة لتشكيل لوحة فسيفسائية بديعة. الكتابة فعل ينطوي على قدر كبير من الحرية. ينبغي ألا يكون ثمة شيء يقيد المبدع، ولو كان سلطة سياسية أو دينية أو مغريات المال (كما وقع مع شخصية جواد). إنها فعل وجودي لمقاومة الظلام والقبح والموت. إنها الضوء الذي يبقينا قيدَ الأمل بأن في نهاية النفق حياة وجمالا وسعادة وخلاصا وخلودا. الكتابة، كما الفن عموما، فعل مقاومة.

بخصوص السرقة الأدبية، "الفسيفسائي" طرَقَت موضوع السرقة الأدبية المباشرة، وهي التي تُعرف بنسخ شخص ما عملا كاملا (مع إجراء تغييرات طفيفة) و تمريره على أنه عمل خاص بهذا المنتحِل، دون الإشارة لصاحبه الحقيقي. هذه السرقات، كما في الرواية، تحكمها دوافع نفسية بالأساس، خاصة عند أولئك الذين يعلقون خلاصهم النرجسي بمشجب الكتابة (نموذج تهامي الإسماعيلي في نص الرواية). أولئك الذين يغذّون بداخلهم رغبة غير عادية، إن لم نقل مَرضيّة، في إظهار "مواهبهم" وتقديم محتوى أدبي "رفيع المستوى".  وأعتقد أن السرقات السائدة الآن هي التي تلتبس بالتناص، ذلك أن كل كتابة هي امتداد لما قبلها، وأن تأثير النص وتأثّره أمر حتميّ في الأدب، ما يجعل تحري السرقة الأدبية صعبا. وإن كان  لا بد من التناص فينبغي أن تذوب النصوص السابقة في النص الجديد مبنى ومعنى حتى لا يسقط الكاتب في تهمة الانتحال.