حوار مع ميرال الطحاوي المرشحة في القائمة القصيرة

04/05/2023

أين كنتِ وقت الإعلان عن القائمة القصيرة للجائزة؟ وماذا كان رد فعلك؟

كنت في بيتي، أحاول عادة تجنب الانتظار، و تفادي القلق بالانشغال أو النوم. كانت الساعة الثانية صباحا بتوقيت اريزونا، أغلقت كل وسائل التواصل الاجتماعي وتركت الهاتف وكنت أعرف أن صديقتي وناشرتي فاطمة البودي سوف تهاتفني في كلا الحالتين، وعندما سمعت رنين الهاتف استيقظت، ثم بدأت في تلقي رسائل التهنئة، كانت الرسائل الأولى من زملاء القائمة الطويلة أحمد الفخراني، مي التلمساني، أحمد عبد اللطيف  وناصر عراق، على التوالي، امتزجت فرحتي بهذا الشعور الجميل بالمحبة والامتنان.

يتناول عدد من أعمالك وضع المهاجرين في أوطانهم الجديدة. لكن كتاباتك يطغى عليها إبراز الجانب البائس لهذه الحياة. هل هذه رؤيتك للحياة في المهجر؟

الشتات والمنفي تجربة مؤلمة في طبيعتها، ومفجرة لكل مشاعر الاغتراب الوجودي وقلق الهوية أو كما يقول أدوار سعيد عن المنفى دائما ما يراودني أثناء الكتابة:

"لا يبحث على الأحزان مصير مثل العيش في المنفى وكان الحكم بالنفي في العصور التي سبقت العصر الحديث عقوبة بالغة الشدة  فالنفي لا يقتصر معناه علي  قضاء سنوات في الشعاب هائما على وجهه بعيدا عن أسرته وعن الديار التي ألفها بل يعني إلى حد أن يصبح  منبوذا للأبد محروما على الدوام  من الإحساس بأنه في وطنه."

صحيح أن قضية الهجرة غير الشرعية والشتات القسري أو الحروب والهجرات والنزوح، والشتات، والاضطهاد العرقي والصدام بين الثقافات هي موضوعات أزلية لم ولن تمل الروايات من اجترارها، مثلها مثل القضايا الإنسانية الكبرى التي تناولتها الكتابة الأدبية طويلا، خاصة في السنوات الأخيرة، وبعد أن  شهد العالم حركة هجرة ونزوح لم يشهدها منذ الحرب العالمية الثانية، وصحيح أنني كتبت روايتي "بروكلين هايتس" ـ  التي كانت أيضا ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية منذ سنوات ـ عن الشتات،  وأزمة الهوية، والاغتراب، والصراع الثقافي والحضاري الناجم من تلك الهجرات، تلك التصدعات الوجودية التي تمر بها الإنسانية.

لكنني أعتقد أن روايتي "أيام الشمس المشرقة" ليست رواية عن عن المهاجرين، بل هي رواية عن فكرة النجاة والبحث عن الضفة الأخرى، عن البؤس والفقر والاستغلال الطبقي، عن البلاد التي تبدو خلابة فقط في الصور لكنها في الحقيقة مقبرة كبيرة لأحلام البسطاء.

الرواية عن الشتات، عن عالم المهمشين في المنفى، عن المهاجرين الفقراء والذين يخضون الكثير من المغامرات في محاولة للنجاة، عن الذين يتسللون لتلك البلاد المشتهاة عادة بطرق غير شرعية ويعيشون في جيتوهات أو بلدات حدودية جبلية أو ساحلية، مثل تلك البلدة التي أكتب عنها أو ما أطلقت عليه مجازا بلاد "الشمس المشرقة" أو غيرها  من مدن النزوح، حيث تتحول الحياة اليومية في هذا المنفى الاختياري إلى محاولة متعسرة للنجاة من أشباح الماضى ثم الهرب من الواقع القاسي، البطولة في النص ليست للشخصيات التي أقدمها، السرد يتمحور حول هذا العالم وكيف يخلق عزلته ويعيش كهامش على أطراف المنتجعات الباذخة.

الرواية إن صح التعبير عن الإقامة في الهامش، الإقامة في الهامش الثقافي والاجتماعي، عن محنة المهاجر الذي صار مغيبا وغائبا في أرض المحضن (الوطن)، ومهمش بحكم لونه وعرقه ولغته وثقافته في الوطن الاختياري الجديد وبالتالي يعيش اغترابا لا يمكن التآلف معه، اغترابا يولد الحنين الدائم إلى ماضٍ وأرض وثقافة ولغة وعالم لم يعد موجودا، وبالتالي فإن جوهر تلك التجربة هو البؤس، والحزن لا يمكن التغلب عليه.

جميع الشخصيات مرسومة بعناية فائقة وكأنهم يتشاركون في بطولة الرواية. هل تعمدت استعمال نموذج مختلف عن السرد التقليدي القائم على شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية؟

وصف الكثير من النقاد مثل الدكتور رشيد العناني والدكتور محمود عبد الشكور وغيرهم الرواية بأنها جدارية، وهو وصف دقيق، فالرواية لا تعتمد علي البنية التقليدية وتحاول أن تلتقط صورة بانورامية لتلك البلدة التي صارت مستنقعا للأحلام المهدرة، جدارية يحتل بعض شخوصها مساحة أوفر لكنها لا تكتمل إلا بوجود الجميع، المهمشين من كل لون وشكل، من كل خلفية عرقية، لصوص، وعمال هاربين، ومتسكعين حول الخليج، عالم متكامل لا يجمعه إلا المغامرة التي انتهت أو بدأت على أرصفة تلك البلدة التي يطلق عليها "الشمس المشرقة".

أحد المشاهد المتكررة في الرواية هي تصوير حياة كلاب البحر. حدثينا عن دورها في الرواية ولماذا اخترت هذا الكائن بالذات؟

هناك أساطير كثيرة وربما معلومات علمية تجعل هجرة الكائنات مسألة فلسفية، ووجودية حاولت توظيفها بشكل ما لتلقي بظلالها على النص، وكيف تتفجر الرغبة في الهجرة عند كل الكائنات من نوازع غامضة،  فهجرة الطيور مازالت تثير الأسئلة المحيرة حول مساراتها، وهجرة أسماك السالمون ما زالت غامضة، ورحلة كلاب البحر أو حيوان الفقمة Seals، رحلة عجيبة أيضا، وبالغة الغرابة، ومليئة بالرموز، لقد  قرأت كثيرا عن هجرة الكائنات، بحثا عن إجابة لهذا السؤال البسيط، لماذا يهجر الإنسان محضنه الأول؟ ولماذا في نهاية رحلته يقتله الحنين لهذا المحض؟ وكيف يتشكل هذا الحنين لمسقط الرأس أو الوطن ويصبح هاجسا حتميا يرافق مشتهيات نهاية الحياة والذي تجسده رغبة معظم المغتربين بالدفن في بلدانهم أو أوطانهم الأم؟ علاقتي بكلاب البحر جاءت حين عشت لسنوات في بلدات على الشاطئ الغربي للولايات المتحدة، خاصة كاليفورنيا، وكان مشاهدة ومراقبة كلاب البحر على خليج مونتري أحد طقوسي اليومية، أجلس بالساعات لمراقبة لحظات المخاض، إرضاع الصغار على الرمال، ثم رؤية بعض جثثها نافقة يركلها الموج، تلك المشاهد دفعتني للقراءة حول  تلك الحيوانات الثديية ورحلتها الغرائبية شمالا وجنوبا، تلك الهجرة التي تشكل دورة من الدورات القسرية في حياة هذا الكائن والتي تتكرر بشكل مأساوي، تبدأ بأسراب الذكور التي تهاجر لتلتقي بالإناث على أحد الشواطئ للإخصاب، يخوض فيها الذكور حروبا دموية لتفوز بالأنثى، وصراعا يطلق عليها حروب المنازل، أي حرب تكوين أسرة، ثم تنسحب أسراب الذكور بعد الانتصار والفوز لتخوض هجرة جماعية مضادة تاركة وراءها الإناث اللاتي يخضن رحلة جماعية للهجرة بمفردهن بحثا عن الشواطئ الدافئة على حدود كاليفورنيا ليخضن تجربة الولادة والإرضاع وإطعام الجراء بل وتدريبهم على الصيد، باختصار تعيش تلك الكائنات حياتها في هجرات جماعية متتابعة، مليئة بالمعارك والجراح، بعد دورة حياة قصيرة أو طويلة تعود الأسراب المهاجرة للشاطئ ذاته الذي ولدت عليه لتموت في المكان ذاته الذي شهد مخاضها.

العلاقات بين معظم الشخصيات غير سوية، بين الأباء والأبناء، بين الأزواج، بين الأصدقاء. كما أننا كقراء نحزن عليهم لكن لا نتعاطف معهم بالضرورة، بل ننفر منهم قليلًا. هل هذا نتيجة حياة المهجر؟

أنا سعيدة جدا برأيك، في الحقيقة الكثير من النقاد أشادوا برسم شخصيات الرواية، الشاعر والناقد سيد محمود علي سبيل المثال قال إن شخصية "نعم الخباز" ستبقى طويلا في ذاكرة الرواية العربية، وهي شهادة أعتزّ بها وأعتبرها وساما على صدري، صديقتي الكاتبة منصورة عز الدين، قالت لي إن شخصيات الرواية لا يمكن نسيانها، وهي شهادة أخرى لم أحلم بها.

التجارب الأدبية بشكل عام لا تتشكل في إطار الشخصيات السوية، والحقيقة أنني لم أكن مشغولة بمدى سواء أو عدم سواد أبطالي أخلاقيا، لكنني كنت حريصة على إبراز إنسانيتهم بكل ما فيها من فجاجة، وعنف ولطف وبؤس، وبعيدا عن الأنماط التقليدية، لأن محاولة التعاطف وفهم دوافع الشخصيات تحتاج قدرا كبيرا من النضج النفسي الذي يؤهل الكاتب لقبول تلك الشخصيات بكل ضعفها ولؤمها وتشوهاتها الكثيرة، أردت  فقط حفر شخصيات يصعب نسيانها، يصعب تجاوزها، يصعب تكرارها، لأنها حقيقية تماما وهذا هو ما يطمح له كل كاتب.

في الحقيقة لا توجد وصفة لخلق شخصية روائية ناجحة أو باقية في تاريخ الكتابة، يوجد فقط الإخلاص لفهم ورسم والقبض على تلك الشخصيات، لقد عشت مع تلك الشخصيات التي لا شك تشكلت بشكل غير تقليدي، وقاست الكثير قبل وبعد اغترابها، وتشوهاتها أعمق من أن تمحى بمجرد الهرب منها، رسمت نعم الخباز، ونجوى و ميمي دونج وسليم وأحمد الوكيل بحياد وتعاطف وأحيانا بسخرية، كل شخصية من تلك الشخصيات سواء الرئيسية أو الهامشية تمثل جزءا أساسيا في بنية النص، إنها جزء من تلك الجدارية التي لا تكتمل الا بالرتوش أو التفاصيل الإنسانية الدقيقة.

من هم الكتاب الذين أثروا فيكِ كروائية؟

هذا سؤال صعب، وربما لا أستطيع تذكر كل الكتاب الذين أثروا في، فكل مرحلة من حياتي كان لها كتابها الذين شغفت بهم، لقد قضيت كل حياتي في دراسة الأدب، الأدب العربي وتخصصت في الأدب الحديث، تلك الدراسة الأكاديمية، ثم العمل الأكاديمي، أتاحا لي الاطلاع على الكثير من النصوص بحكم تخصصي.

بشكل عام أنا أقرأ كثيرا وأحاول متابعة كل ما ينشر في العالم العربي، وبطبيعة دراستي للأدب فقد درست الأدب العربي في كل مراحله الكلاسيكية إلى الحديثة، أضف إلى ذلك طبيعة عملي كأستاذة للأدب العربي الحديث فأنا أتابع تقريبا كل ما ينشر، فتلك المتابعة هي ما يمنحني شعوري بالوجود، بأنني لم أفارق قط تلك الثقافة، أعرف الكثير من أصدقاء الكتابة، تلك الصداقات هي عالمي الوحيد الذي يبدد مشاعر الغربة والوحدة في المهجر.

لقد تكونت ذائقتي من قراءة الأدب الكلاسيكي ومطالعة أمهات الكتب، وهناك كتابات كثيرة أثرت في تكويني، أستطيع أن أقول إن الغزالي وابن عربي، وابن حزم، وطه حسين وغيرهم، قرأت كل الكلاسيكيات الروسية المترجمة.

في الأدب الأمريكي مثلا أحب مارلين روبنسون وثلاثيتها التي بدأت بروايتها الجميلة "تدبير منزلي" وأعتقد أنها من أهم الأصوات في الأدب الأمريكي الحديث، أحب جون فانتي وحياته وموته وكيف تم إعادة اكتشافه، واكتشاف روايته الجميلة "أسأل الغبار" وأعماله الثلاثة المعروفة بـ "ثلاثية بالديني"، لا أتوقف عن قراءة اغوتا كريستوف من "الدفتر الكبير" إلى "البرهان"، أعود لها مرة بعد مرة، أحتفظ بمذكراتها التي كتبتها تحت عنوان "الأمية" وأحفظ عن ظهر غيب بعض مقاطع هذا الكتاب الصغير الجميل الذي يختصر تجربة الحرب والشتات والوطن.

ما هي الكتب التي تقرأينها الآن؟

أعيد قراءة "الليالي العربية" (ألف ليلة وليلة) وهي نص خلاق، كل مرة أعود إليه أكتشف الكثير عن الثقافة العربية وروافدها، أقرأ كتاب "الإسلام والجنس" لعبد الوهاب بوحديبة، و"شهرزاد ترحل إلى الغرب"، لفاطمة المرنيسي وذلك لأسباب بحثية حيث أقوم بكتابة فصل في كتابي الجسد الأنثوي على لسان المرأة تراثيا، أناقش كيف كان خطاب شهرزاد خطابا ذكوريا في مجمله، خاصة في وصفه علاقته بجسد المرأة وجنسويتها.