حوار مع فاطمة عبد الحميد المرشحة للقائمة الطويلة

27/02/2023

متى بدأت كتابة رواية "الأفق الأعلى" ومن أين جاءك الإلهام لها؟

الأفق الأعلى هي روايتي الوحيدة التي بدأتها بلمسة شخصية، خلطة ما بين الواقع والخيال، وكأنني اهتديت لجزء مختلف وغير مستعمل من دماغي. في غمرة الحزن على فراق عمي الوحيد، والذي كان بمثابة الأب والصديق والمعلم الأول في مدرسة التمرد، لاحظت أن بعض النساء المعزّيات يتلفتن بحذر في كل الجهات، ثم يتبادلن المعلومات بهمس، وكأن على تلك المواقف أن تخرج منهن في تلك اللحظة، وإلا ستكون في خطر أن يجتاحها عث النسيان. الحاضرات كن يستدعين مواقف للفقيد، يقوم بها سرا بمنتهى النبل والجسارة مع أزواجهن أو إخوتهن! إذ بدا بعد موته وكأنه مشهور ومجهول في آن، فظلت ذكراه ومواقفه الخفية على مدى أشهر تظهر متتابعة" يُصلح بين زوجين، يُقرض أحدهم، يعيد حقا لصاحبه، يكفل أسرة ...) وهكذا تتالت قصص حية تأتي من البعيد عنه، وكأن الجميع اعتزموا بتلك الثرثرة على عدم فقدانه. حينها أدركت أن الحب هو الأمر الوحيد الذي لديه فرصة لمواجهة الموت، وأن للكتابة قوة تفوق القدر والزمن، فتخيلت ذلك الخصم الأزلي المسمى بالموت، يتقدم ببطء متوقفا بعد كل خطوة يخطوها، وبصوت عميق خالٍ من العاطفة يدافع عن نفسه، ويشرح ما يَرى هو، وما لا يُمكن لنا أن نراه!!

هل استغرقت كتابة الرواية مدّة طويلة؟ وأين كنت تقيم عند إكمالها؟

لدي في العموم مخطط أبدأ منه، قد يكون صورة صغيرة أو مشهد ثم يتوسع معي، ترافقه حالة عقلية أقل وثوقية، تصور عام لشخصية أو اثنتين... أكتب عادة نسخة أولى من الرواية، أحذف فيها أكثر مما أكتب، فهي الرحلة الأولى في البحث عن الكلمات، هي نسخة لقصة وشخصيات قابعة في الظلمة، ثم نسخة أخرى تتبعها، يسطع الضوء فيها والفروقات بين الشخصيات شيئا فشيئا، مع عدد من الإضافات والتعديلات، وأرى ذاتي هنا أكثر تنظيما ومنهجية. وبعد حين من الوقت أسلم القيادة كاملة لشخصيات الرواية. هي من تبحث المشكلات وتداعياتها وأنا أكتبها فقط، وهذا يكون في نسخة متقدمة، قد تكون المسودة الخامسة، فأنا أمضي سنوات في الكتابة، ليس لأن إيقاعي بطيء، وهو كذلك على كل حال، لكن لأنني أتعامل بحزم وصرامة مع الكتابة، وهذا ما حدث معي في رواية "الأفق الأعلى"، إذ استغرقتْ كتابتها وإعادة كتابتها سبع سنوات، سرد ملاك الموت وحده كان مجهدا، إذ كيف أجعل للموت صوتا جاذبا يتحدث عن أهوال الحياة ومباهجها؟ صوتا ليس غارقا في التعاسة وليس خياليا بالكامل! وكيف يمكن أن أميزه بلغة تختلف عن لغتنا نحن البشر وبدون أن أقع في الحذلقة البلاغية؟ كيف ألبسه قناعا لائقا لا ينفر القارئ؟ مع ذلك ولأكون صادقة أكثر، مؤخرا أشعر بسعادة لا يتبعها تأنيب ضمير، حين يصرح لي أحدهم بأنه قفز عن المقاطع التي كان يتحدث فيها ملاك الموت لأنها أخافته! أرى هذا نجاحا لي وإن كان ظلما للرواية. أعتقد أنها شيزوفرينيا محمودة.

هل لديك طقوس للكتابة؟

إنني أعوض عن الأصدقاء والأطفال، بخلق عالم بصحبة الكتب والقراءة والأفلام والسباحة، مع تفعيل كلي طوال الوقت لجهاز التخيل والانغمار الجريء في المجهول، وهذا ما أدركت لاحقا بأنه كان شيئا ملائما لي من حيث لم أدرك. فالكتابة أكثر المهن تعايشا مع الوحدة، وهذا ما يسهّل عليّ التقمص العاطفي في القصة، إذ يصبح طقس الكتابة حاضرا طوال الوقت، وإن كان في شكل مقتطفات متقطعة، أدونها بشكل متناثر بحسب المتاح ما بين هاتفي ودفاتري، ثم أفرغها في وقت لاحق في ملفات متفرقة. ويتوجب على وقت الكتابة أن يكون نهارا، فأنا كائنة نهارية بشكل فطري، أجلس للكتابة ساعات الفجر الأولى وبعد ظهر كل يوم! وبالكاد أكتب سطرا في المساء، المساء عندي للنسيان، حتى أنني أحسب نفسي لا أعود كاتبة من بعد السابعة مساء، وأفقد توقدي بعد غياب الشمس مباشرة.

ما هو مشروعك الأدبي بعد هذه الرواية؟

لطالما تمنيت ألا يسلط الضوء علي، أن أبقي بمنأى عن الآخرين، أن يلقى بالنور فقط على ما أكتب، أن يبقى العالم الجوّاني لي وحدي، وكأنني في حالة عقلية تشبه الحلم، فالكتابة بالنسبة لي ليست قدرا بل تحديا، تحديا لمقاومة زهو الظهور عند الكاتب، تلك النشوة التي رأيتها وكرهتها أول مرة في وجه جدتي، فهي حكاءة بارعة لديها مخزون هائل من حكايات الحب، وطريقة آسرة في سردها، لكن براعتها تلك لا تظهر إلا في حضرة جمهور. تنتظر المجلس حتى يمتلئ بالنسوة، ثم تبدأ في سرد حكاياتها وقصائدها بكرم كبير! عبثا كنا نتوسلها أنا وأختي، لكي تحكي لنا قصة من قصصها تلك لنا بمفردنا في وقت لاحق! وإن فعلت فإن الكلام يخرج من فمها ثقيلا ومتكاسلا، وكأنه بحاجة إلى مضخة ماء تدفعه للخروج. أظنني لهذا أتهرب كثيرا من الحوارات، والحلقات الأدبية، وأميل أكثر للقراءات حول الأعمال، ربما لهذا اختبأت مرة في مرآة تتحدث، ومرة في ملاك موت يحلق فوق الرؤوس، وأرى الكتابة غير مكتملة بدون هذه الحرية، وهذا الاختباء مع الاحتفاظ بحس الفكاهة الدرامي والذي يتسرب من طبع وراثي وشخصي على ما أظن. لكن في مشروعي القادم هناك محاولة لكسر هذا النمط، نوع من التحدي أرى نفسي بحاجة إليه، الذهاب لأسلوب واقعي أكثر، للتاريخي أكثر، ربما لأنني عزمت على خوض تجربة مختلفة هذه المرة، لا أريد أن أضع العربة أمام الجواد وأعيق السير، لكنني أعمل على شيء مختلف هذه المرة.