حوار مع أميرة غنيم المرشحة في القائمة القصيرة

24/05/2021

أين كنت وقت الإعلان عن القائمة القصيرة للجائزة؟ وماذا كان رد فعلك؟

وقت الإعلان عن القائمة القصيرة كنتُ في طريقي إلى المدرسة الواقعة على مسافة عشر دقائق من بيتي، أوصل راجلةً ابنتي لدروسها وعيني على هاتفي أنتظر البشرى. وفعلًا، لم أكد أعود أدراجي حتّى اتّصل بي ناشري مهنّئا ثمّ تتالت مكالمات الأصدقاء الذين تابعوا على المباشر فيديو الإعلان على صفحة الجائزة. كانت سعادتي عظيمة بطبيعة الحال، فالوصول إلى القائمة الطويلة كانَ رهانا عسيرا، أمّا تخطّي القائمة الطويلة إلى القصيرة فقد تلقّيتُه بفرحةِ من رأى أبواب الأمل تفتّح في وجهه على استحياء.

 

حدّثينا عن البحث الذي قمت به من أجل كتابة رواية "نازلة دار الأكابر"؟

 لم يكن البحثُ المتعلّق بنازلة دار الأكابر مرحلة سابقة عن التأليف بل كان في الواقع نشاطا محايثًا لفعل الكتابة. فمن أجل إحكام النسيج السرديّ احتجتُ أحيانا إلى الاستعانة بالوثائق التاريخيّة المتعلّقة بفترة الثلاثينات في تونس على وجه التخصيص، فكانت معظم مطالعاتي خلال الفترة التي كنت منكبّة فيها على كتابة الرواية موجّهة نحو ذاك المنحى. ولمّا كانت بعض الأحداث متعلّقة بشخصيّات مرجعيّة فقد احتجتُ أيضا إلى تعميق معرفتي بهذه الشخصيّات وبالعلاقات الجامعة بينها وبالفضاء الذي كانت تألفه وتتحرّك فيه. ثمّة أيضا اشتغال على التراث اللاماديّ التونسيّ أحوجني بين الفينة والأخرى إلى استرفاد بحوث جامعيّة أو شرائط وثائقيّة أو حتّى شهادات شفويّة من حفّاظ الذاكرة الجماعيّة. وفي العموم، كنتُ منفتحة على كلّ ما يمكن أن يمنح السرد مصداقيّة ويمنح الرواية عُمقا معرفيّا لا يظهرُ للقارئ ظهورا مباشرا فجّا وإنّما يكون بمثابة الخلفيّة التي تُحدس حدسا ولا تُرى عيانا.

قلت في حوار سابق إنك ترغبين في كتابة "التاريخ غير الرسميّ لشخصيّاتٍ زيّفت الوثائقُ صورتَها في الذاكرة الجمعيّة". هل تم تزوير صورة الطاهر الحداد؟ وهل تعتبرين أنه "قاسم أمين تونس" كما قيل عنه؟

أعتقد أنّ الكتابات المتأخّرة عن الطاهر الحدّاد تمكّنت من تصحيح صورته، بل كانت في مجملها منصفة له ولفكره بعد أن أوجد الزعيم الحبيب بورقيبة لهذا الفكر الإصلاحيّ شرعيّة اجتماعيّة بقوّة القانون من خلال إصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة منذ فجر الاستقلال، وهي مجلّة قانونيّة استلهمت رؤية الحدّاد التنويريّة في خصوص المرأة والأسرة. غير أنّنا إذا عدنا إلى كتابات معاصريه، سواء في الصحف التي شنّعت عليه غداة صدور كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، أو في المؤلّفات التي صاغها شيوخ الزيتونة للردّ عليه، لاحظنا بيسرٍ نيّة التشويه والتزوير والتكفير التي صدر عنها هؤلاء. وهو الأمر الذي حدا بصديقه أحمد الدرعيّ إلى أن يكتب مؤلّفا عنوانه "دفاعا عن الحدّاد" جاء في مقدّمته أنّه "تصحيح للتاريخ لمن تهمّهم معرفته". وأعتقد أنّ رواية نازلة دار الأكابر كانت في جانبٍ منها منخرطة في المسار التصحيحيّ المتعلّق بالرموز الوطنيّة، غير أنّها أسدلت أمام التاريخيّ حجاب التخييليّ معوّلة على نباهة القارئ الذي لن يغفل حتما عن الشفافيّة المميّزة للحُجب التي ينسجها الإبداع السرديّ، حُجب تكشف أكثر ممّا تستر، إذ لا يلبث القارئ/الرائيّ أن يستشفّ بقليل من التأمّل ما يثوي خلفها من أثافٍ ثلاث مسترسلة على خطّ الزمان المرجعيّ هي ماضينا وحاضرنا والبعض من آتينا. 

أمّا القول عن الحدّاد بأنّه "قاسم أمين تونس" فأظنّه مفيدا لتلخيص جانب وحيد من المشروع الإصلاحيّ الذي نهض به الحدّاد، وهو ذاك المتصل بتحرير المرأة. غير أنّه ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أنّ الطاهر الحدّاد لم يكن مصلحا اجتماعيّا فحسب، ولم يكن نضاله الفكريّ مقتصرا على موضوع المرأة. فعلى الرغم من حياته القصيرة، جمع الحدّاد في كتاباته بين محاور إصلاحيّة متشابكة، إذ كان مصلحا اجتماعيّا مدافعا مثل قاسم أمين عن حقوق المرأة، وكان أيضا مصلحا نقابيّا دافع عن حقوق طبقة العمّال في كتابه حول الحركة العمّالية بتونس في فترة العشرينات، علاوة على تأليفه كتيّبا في إصلاح التعليم الزيتونيّ، وهذا ما يجعله قائما على جبهات نضالية كثيرة لستُ أظنّها اجتمعت عند مصلح غيره لا في تونس فحسب، بل في العالم العربيّ أيضا.

نلاحظ أن الشخصيتين المحوريتين، الطاهر الحداد وزبيدة، لا تعبران عن نفسيهما، وكل ما نعرفه عنهما، نسمعه من الشخصيات الآخرين، رواة قصتهما. لماذا؟

فعلا لم يفرد السرد للطاهر وزبيدة مساحة للشهادة على غرار سائر الشخصيّات الذين شهدوا أحداث النازلة وذلك لسببين، أوّلهما الحفاظ على الالتباس اللذيذ بين المتخيّل والواقعيّ، إذ أنّ شهادة أحدهما، متى تضمّنها المتن الروائيّ، قد تُحمل على أنّها إعادةُ كتابة لقصّة الحدّاد التاريخيّة وكشفٌ عن أحداث واقعيّة، وليس ذلك من غايات الرواية ولا هو في ظنّنا ممّا ينفع الأدب في شيء. والسبب الثاني، وهو الأخطر، على صلةٍ بالغاية الفنيّة التي قصدتُ إليها من خلال تعدّد الأصوات في الرواية. فقد كانت طِلْبتي إذكاء حيرة القارئ وهو يعاين نسبيّة الحقيقة. فمن خلال تشْظِيَة الوقائع على ألسنة الرّواة، يحافظ السرد على تنوّع وجهات النظر ولا ينتصر لوجهة دون أخرى مفوّضا ذلك إلى ذكاء القارئ. بناءً على هذا الاختيار، قد يكون إدراج شهادة زبيدة أو الطاهر بمثابة الاستيلاء على قيمة الشهادات السابقة والتفريط في تلك الأرض الرجراجة الزلقة التي يتحرّك عليها النصّ مجبرا القارئ على المشاركة في بناء الحكاية من خلال تخليص ما وقع ممّا لم يقع. فمن المؤكّد أنّ الطاهر وزبيدة يملكان الحقيقة التي انتثرت أجزاؤها في أفواه الرواة وهم يتناوبون على سرد النازلة، حقيقة قد تكذّب شهادات الرواة أو تعدّل منها بما يجعلهما يمثّلان من غير شكّ وجهة النظر الغالبة، وذلك على خلاف ما أراده السارد في نازلة دار الأكابر من تكافؤ بين وجهات النظر وتنوّع ونسبيّة.

 

قلت إن قصة الطاهر الحداد وزبيدة هي هامش الرواية وإن الموضوع الرئيسي هو "الصراع التاريخيّ بين تصوّرينِ للوجود ورؤيتين للعالم كشفت عنهما الشهادات" هل يمكن أن تحدثينا أكثر عن هذا الموضوع؟

نعم. كانت قصّة الحبّ المتخيّلة بين الطاهر الحدّاد وزبيدة الرصّاع ذريعةً للسرد ليس إلّا. ولهذا ليس يجد القارئ في نازلة دار الأكابر تفاصيل هذه العلاقة لأنّ منطق البناء التخييليّ يتعمّد حجب جانبٍ كبير منها فلا يُدرك إلّا تكهّنا ومن خلال التقاط إشارات عابرة. أمّا محرق الحبكة فقد كان موجّها لرصد التناقضات التي شهدها المجتمع التونسيّ خلال فترة الثلاثينات. وهي فترة غنيّة في تاريخنا الوطنيّ بالصدامات المثمرة على أصعدة مختلفة، سياسةً ومجتمعا وفكرا. حاولت الرواية استعادة هذه التناقضات وإبراز جذورها التاريخيّة والتلويح بآثارها وانعكاساتها على الحاضر التونسيّ من خلال تلك الشخصيّات المتصارعة التي، وإن تعايشت في بيئة واحدة وأحيانا تحت سقف واحد، فقد جسّد كلّ منها رؤية أخلاقيّة وقيميّة في تناحرٍ مع رؤية أخرى مختلفة عنها. هذا الصراع هو لبّ الحكاية وهو معطى أساسيّ لفهم التحوّلات الاجتماعيّة الطارئة على البيئة التونسيّة وما يشابهها من سائر البيئات العربيّة. أمّا تحديد الرؤيتين المتصارعتين فأتركه لعناية النقّاد وقد قرأت مؤخّرا مقالا للناقد المغربيّ محمّد برّادة يتعرّض إلى هذه المسألة باستفاضة مثيرة للإعجاب.

 

ماذا أضافت شهادتا الخادمتين لويزة وخدوج للحكاية؟ هل كان من المهم أن يسمع القارئ شهادات نساء من هذه الطبقة؟

رغم انتماء لويزة وخدّوج إلى الطبقة المنسحقة نفسها وتحلّيهما تقريبا بنفس القيم الأخلاقيّة وفاءً وأمانة وإخلاصا للمخدوم، فإنّهما لم تُفلتا من شرك الصراع المحموم، فقد كانتا على امتداد الفصول عدوّتين لدودتين ولم يشفع همّهما المشترك ومعاناتهما المشتركة من العبوديّة والعنصريّة في التقريب بينهما نفسيّا، بما يدلّ على أنّ التعاطف بين أفراد الطبقة نفسها ليس قدرا محتوما. ونعم، كان من الضروريّ في منطق بناء الحكاية أن يمنح صوتٌ للخدم كما مُنح للأسياد، بل إنّ شخصيّة لويزة التي شهدت كلّ الأحداث وامتدّ بها العمر طويلا، كانت أقوى حضورا وأكثر جاذبيّة في ظنّي من أغلب الشخصيّات ذات السلطة الرمزيّة. فكأنّها شخصيّة/ مرآة ينعكس عليها قُبح الطبقة التي ظنّت طويلا، وما زالت تظنّ، أنّ رأسمالها السلطويّ نَسبًا وثروة يخوّل لها التصرّف في مصائر الضعفاء بلا وازع من أخلاقٍ. ولهذا فإنّي أعتقد أنّ شهادتيْ الخادمتين وحضورَهما على ألسنة الرواة في سائر الشهادات دون استثناء كانَ أساسيّا في تحقيق مغزى أساسيّ وهو تحويل الهامش المنسيّ إلى المركز حيثُ بؤرة الضوء الكاشفة لجمالٍ لم تتعوّد العين على الاحتفاء به.

 

نجد في الرواية على لسان محسن النيفر جملتين، وهو يتحدث عن زبيدة: "أيّ صلابة يختزنها هذا الجسد الضئيل في اللحظة التي يظن فيها أنه منحطم كسير؟ أليس عجيباً أن يكون التعبير عن الضعف استعراضاً لمنتهى القوّة؟" (ص. 373). هل لديك تعليق؟

يسعدني أنّكم التقطتم هذا الاقتباس. فهو من الجمل التي كتبتها والقشعريرة تخترق جلدي. أترك التعليق للقرّاء وأكتفي بإشارة لطيفة إلى البعد الرمزيّ لهذا القول وإن كنتُ أحسب أنّ القارئ النبيه في غنى عنها. نعم، هذا الكلام ليس صالحا لوصف زبيدة فحسب ولا هو منطبقٌ عن المرأة بشكلٍ عامّ، فحسب.. إنّه يصف، بإعجابٍ كبير، كلّ المنسحقين الذي يهزمون الهزيمة وينتفضون كالعماليق من تحت الركام في الوقت الذي خيّل فيه لجلّاديهم أنّهم خنعوا واستكانوا.