حوار مع الحبيب السالمي المرشح في القائمة القصيرة
21/05/2021
نقرأ في رواية "الاشتياق إلى الجارة": "ليس هناك ما هو أكثر غموضا وغرابة وتقلّبا في عالم العلاقات البشرية من علاقة ذكر وأنثى" (ص. 65). هل هذه العلاقة هو الموضوع الرئيسي الذي يشغلك في "الاشتياق إلى الجارة"؟
العلاقات البشرية عموما و تلك التي تربط بين الذكر و الأنثى خصوصا تكتسي في نظري أهمية كبيرة إذ نستطيع أن نفهم من خلالها الكثير مما يحدث في مجتمعاتنا. إن عمليّة نشوئها مع كل ما يحيط بها عادة من التباس وغموض و ما تشهده أحيانا من تحوّلات و تقلّبات تشكّل جزءا مهمّا من الموضوع الذي تسعى رواية "الاشتياق إلى الجارة" إلى مقاربته و ليس الموضوع الرئيسي كما ورد في السؤال.
صحيح أن الرواية تتناول في مستواها الأوّل الظاهر عالم هذه العلاقات لكنها تذهب إلى ما هو أبعد من هذا لتضيء ثيمات أساسيّة مثل مفهوم الحبّ و منطقه الداخلي و إشكالات الهويّة في عالم لا يتوقّف عن التطوّر. وهي تعالج ضمن دائرة أوسع دلالة المنفى و الاغتراب وعلاقة العربي بذاته من جهة و بالآخر من جهة أخرى.
تُروى القصة من منظور الراوي المتكلم، بطل الرواية، وهو يخاطب القارئ ويعترف له بما يجول في داخله. لماذا فضلتَ الاعتماد على هذا النوع من الرواة؟
اخترت أن يكون الراوي ضمير المتكلم لكي أكون قريبا قدر المستطاع من العالم الداخلي للشخصية الرئيسية كمال عاشور أستاذ مادّة الرياضيات الذي عاش تجربة لم يكن يتصوّر قبل التقائه بزهرة الشخصيّة الرئيسيّة الثانية أنه سيعيشها يوما ما خاصّة أنه في الستّين من عمره. لقد فجّرت زهرة فيه سيلا من الأفكار والآراء و التصوّرات عن نفسه و عن العالم الذي يقيم فيه و ولّدت في نفسه الكثير من الانطباعات و الأحاسيس و جعلته يراجع ذاته و يطرح عليها أسئلة ما كانت لتخطر بباله. لقد أحدثت فيه رجّة هائلة. و كان لا بدّ من التقاط كل هذا بأهم ما فيه من تفاصيل. و ضمير المتكلم الذي لجأت إليه ساعدني كثيرا على القيام بذلك . لو استعملت ضمير الغائب "البارد " و "المحايد" لما تمكّنت من القبض على الملامح الأساسيّة لهاتين الشخصيّتين اللتين تقوم عليهما الرواية.
بطل الرواية، مثل كاتب الرواية، رجل تونسي مقيم في باريس، يدرّس في معهد للتعليم العالي، متزوج من فرنسية، ومن نفس الفئة العمرية. هل يشبهك في أشياء أخرى، في شخصيته مثلا؟
في كل الشخصيّات الروائية نجد شيئا ما من الكاتب. هناك جزء صغير من الصفات والملامح و السلوكات يتسلل منه بشكل لاواع إلى العمل حتى و إن لم يشأ ذلك. ألم يقل الروائي الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير جملته المعروفة " مدام بوفاري هي أنا ". و يقصد بهذا أنّ هناك شيئا ما من شخصيته العميقة في شخصية مدام بوفاري بالرغم من أنها امرأة.
لكن الرواية ليست سيرة ذاتية و إنما هي عمل فني تخييلي بالأساس. هناك اختلافات كبيرة جدّا بيني و بين البطل. و التشابهات التي ذكرتها في سؤالك هي سطحيّة جدّا و لم تقم بأيّ دور أساسي في التطوّر الدرامي للرواية و لا في المنحى الذي اتخذته.
هل الاشتياق إلى الجارة، زهرة، هو وجه آخر للحنين إلى الوطن؟
لا أعتقد. أنا لست من الذين يقيمون في الحنين. لا أريد أن أنظر إلى الخلف. لكن هذا لا يعني أني أنكر ماضيّ أو أحاول أن أهرب منه أو أن أقطع صلتي به. و على أيّ حال، حتى لو حاولت لما تمكّنت من ذلك لأن الماضي هو جزء أساسي من شخصيتنا. هناك تمازج بينه و بين الحاضر. أنا أفرّق بين الذاكرة و الحنين. عمل الذاكرة مفيد بل ضروري لأنه يعدّل و يرتّب و يسائل. وهو بهذا المعنى يساعدنا على أن نرى الأمور بوضوح. أما الحنين فهو مجرّد استعادة و في الكثير من الأحيان يتحوّل إلى عملية تجميل لما عشناه.
ما دلالة رواية "عرس الزين" للطيب الصالح في سياق "الاشتياق إلى الجارة"؟
اخترت "عرس الزين" لعدّة أسباب. أوّلها أني أحبّ هذه الرواية و أعتبرها أهمّ عمل للطيب صالح و من أعمق الروايات العربية رغم قصرها. و ثانيا لأنها تتناول موضوع الحبّ. و ثالثا لأن حجمها الصغير يناسب عقليّة زهرة. ينبغي ألا ننسى أن زهرة هي امرأة أميّة تجهل كل شيء عن الأدب. و هي لم تتعوّد على رؤية المكتبات. و الكتب التي شاهدتها في مكتبة سي عاشور كتب سميكة في أغلبها بالنسبة لها. ومجرد النظر إليها يثير في نفسها شيئا من الخوف. إنها لا تجرؤ حتى على لمسها. الكتاب الوحيد الذي ارتاحت له هو "عرس الزين" و السبب هو أن عدد صفحاته قليل. و لكن عندما علمت أنه رواية و خاصّة أنها تتناول قصة حبّ ازدادت تعلقا به وأبدت رغبتها في قراءته.
"كم هي هشّة وملتبسة ومتقلّبة علاقة الذكر بالأنثى! وهي رهينة أمور بسيطة، بل تافهة" (ص. 25). هل لهذا السبب لا توجد أحداث كبرى في الرواية؟
هناك أحداث " كبرى " في " الاشتياق إلى الجارة". و أهمّها وقوع كمال عاشور في الحبّ في عمر الستّين و تطوّر العلاقة بينه و بين زهرة بشكل مفاجئ مما ولّد العديد من المواقف والحالات التي لم تكن متوقعّة بين أستاذ في الجامعـــــة و امرأة تنتمي إلى وسط اجتماعي متواضع.
وعلى كل حال أنا أعتقد أن الأحداث في كل عمل فني هي " كبرى " إن عرفنا كيف نشتغل عليها. هناك روايات مهمّة مبنيّة على أحداث تبدو "صغيرة ". و أكتفي هنا بمثالين فقط: رواية قصيرة و هي " بيدرو بارامو" لخوان رولفو و رواية طويلة جدا و هي "البحث عن الزمن الضائع " لمارسيل بروست. لا نعثر في هذين العملين على ما يمكن أن نعتبره حدثا "عظيما ". ومع ذلك فإنهما يعدّان من أروع ما كتب من أعمال روائية. لا توجد أحداث أو أفكار " صغيرة" إذا تعلق الأمر بالإبداع إذ إن العمل الفني يتضمن قدرة هائلة على رؤية الواقع الموضوعي الذي يحيط بنا على نحو مغاير تماما و يمنح هذا الواقع اتساعا وعمقا وكثافة.
ماذا يكتشف البطل عن نفسه في نهاية الرواية؟
يكتشف شيئا من هشاشته و تناقضاته. و هو أمر أساسي بالنسبة لي. صحيح أن الكائن البشري يميل عادة إلى ذكر ما فيه من خصال. و لكن اكتشاف هذه الهشاشة و التناقضات ومحاولة التصالح معها يمنحانه عمقا و ثراء. يكتشف أيضا أن نفسه لم تترهل مع التقدم في العمر و أنّ في أعماق كل كائن بشري قدرة عظيمة على التجدّد و خاصّة على اجتذاب الآخر و الحبّ. في مجال العشق لا شيء يموت تماما. قد تخبو نار الحبّ لفترة ما لعدة أسباب. لكنها قابلة لأن تتوّهج في أيّ لحظة.
هل الرواية نسوية؟
لم يكن في نيّتي و أنا أكتب " الاشتياق إلى الجارة " أن أجعل منها رواية نسويّة. لكن المرأة تمتلك حضورا كبيرا و جميلا في الرواية. عالم المرأة ثريّ و متنوّع وأحيانا غامض. و لهذا فهو يغريني بالكتابة عنه.
هذه هي المرة الثالثة التي تصل فيها إحدى رواياتك إلى القائمة القصيرة للجائزة، بعد وصول "روائح ماري كلير" ونساء البساتين" إلى القائمة في عامي 2009 و2012. بماذا شعرت هذه المرة؟
شعرت بنفس الفرح الذي شعرت به في المرّتين السابقتين.