حوار مع عبد اللطيف ولد عبدالله المرشح في القائمة القصيرة

19/05/2021

أين كنت وقت الإعلان عن القائمة القصيرة؟ وماذا كان رد فعلك؟

كالعادة كنت في ورشة العمل أشرف على متابعة مشروع معماري وسط الغبار المتطاير جراء تنقل الآلات والأصوات المنبعثة من كل شبر داخل الورشة. لم أكن أملك الانترنت في ذلك المكان القصي لذا سمعت بالخبر متأخراً. بعد أن اتصلت بي أختي وكانت أول شخص يخبرني بتأهلي إلى القائمة القصيرة. كنت أثناء ذلك في اجتماع مع أرباب العمل نناقش تفاصيل البناء وقبل انتهاء المكالمة كنت قد تغيرت تماما وظهر ذلك جليا للجميع، حيث بادروا بسؤالي وأنا لا أكفّ عن الابتسام، ما بك؟ فأخبرتهم عن الجائزة العالمية للرواية العربية. وبعدها لم يعد الحديث كما كان وتحول رجال الأعمال من خبراء في المال إلى أطفال يحاولون إشباع فضولهم بكل صدق حول ما كان يجري. كانت لحظات لا تنسى وخاصة أن أشخاصاً لا علاقة لهم بالأدب قد تأثروا بسعادتي وتقاسموا معي ذلك الشعور بكل صدق وإخلاص. 

 

يُشَبه وحيد حمراس نفسه بشهرزاد حيث انه يحكي لساجنيه حكاية وعليه الاطالة على قدر رغبته فى الحياة. لماذ لجأت لتقنية الحكاية داخل الحكاية؟ وكيف ساعدك ذلك على بناء الرواية ؟

في الحياة تترابط الأحداث فيما بينها وتؤثر في بعضها البعض، وقد لا يبدو ذلك واضحا من البداية، إلا أننا نعيش متتالية من التجارب الإنسانية. إن تقنية الحكاية داخل الحكاية تسمح بالولوج إلى عوالم أخرى قد تكون هامشية أو منسية، وتمكّن القارئ من فهم الحياة بعمق أكبر، كما أنها تمنح الحرية للقارئ ليتجول في عالم غير مستقر ينتقل من حدث مهم إلى حدث جانبي، قد يبدو الرابط هشا ولكنه موجود، فالهامش مهم وعلينا أن نتعلم كيف نلتفت إليه لفهم واقعنا بشكل أفضل. فالتاريخ الحقيقي ليس ما يكتبه المؤرخون التقليديون، إن التاريخ ليس صنيع النخب في الأخير وإنما هو مزيج من كل شيء. هناك حكاية شعب بأكمله بماضيه وحاضره، وحكاية البطل وحيد حمراس أيضا بماضيه وحاضره، ولكن هناك قوة سياسية غاشمة، تحاول العبث بهذا التاريخ وطمسه، لكي تهيمن على ذاكرته أو محوها، لكي يظل صنم السلطة قائما. هذه النقاط الثلاث تم الربط بينها، بواسطة تقنية الحكاية داخل الحكاية. فلكي نفهم السلطة علينا أن نفهم الشعب ولنفهم الشعب علينا أن نفهم الفرد، وكل ذلك تفرع إلى قصص عديدة ستقودنا في النهاية إلى قصة واحدة، هي قصة الإنسان منذ ظهور الحضارات.

تحتل الآثار الجزائرية مكاناً كبيراً في السرد، وفي قلبها علاقة الأجانب بأصحاب الأرض الجزائريين. هل هذه طريقتك في تناول قضية الهوية؟ وكيف تتفادى الوقوع في فخ الكليشيهات الهوياتية؟

لأكون واضحا من البداية، عند كتابة الرواية لم أفكر بمنطقة بعينها، كانت الفكرة الرئيسية هي الحدود والألغام التي تفرق الشعوب وتفصل بين الدول، هذه الحدود موجودة منذ القدم مع ظهور الملكية الفردية وتطورت أكثر مع توالي الحضارات فخط الليمس يمثل العنف الروماني وخط شارل وموريس يمثل الاغتصاب الأوروبي للدول المستضعفة في إفريقيا و غيرها من الدول ولن تزول الحدود بزوالها في أرض الواقع لأنها موجودة في أذهاننا، فالتقنية عززت من وحدة الإنسان وعزلته عن محيطه وجعلت منه رقما في معادلة كونية. هذا النوع من التغريب والتفرقة بين الأشخاص أكثر خطورة من الألغام والأسلاك الشائكة التي فرقت بين الجزائر والمغرب منذ عقود ولا تزال قائمة في العديد من بقاع العالم. اختلقتُ مكانا متخيلا للأحداث: فدوار سيدي المجدوب ودوار سيدي الحراك هما قريتان متجاورتان تفصل بينهما الألغام ولهما تاريخ ومصير مشترك. وبينت كل ذلك في خريطة مفصلة تظهر المكان المتخيل بكل تعقيداته لأفسح المجال لمخيلة القراء ويمكن إسقاط مكان الرواية على عدة مستويات. أما التاريخ البشري فهو مشترك بين الشعوب وكل اكتشاف هو بمثابة تقريب الفهم لحقيقتنا كنوع نجى من الانقراض، أي كبشر. لا يوجد عرق صاف، فالإنسان القديم سافر في كل العالم واختلط بكل السلالات البشرية، فالفروقات ثقافية وليست عرقية وهنا لابد لنا أن نعيد قراءة التاريخ لتحديد المفاهيم التي تتكون منها ثقافة هذه الشعوب، ثم نحاول رصدها وفهمها بشكل أعمق.

 

يصف بعض النقاد الرواية بأنها مزيج من الرواية البوليسية والرواية التاريخية – كيف تصنفها أنت؟ كيف تريد لروايتك أن تقرأ؟

الإطار البوليسي كان مجرد شكلاً عاماً للقصة، لم أركز على عنصر التشويق كثيرا، لأن ما أردت قوله يحتاج إلى الرزانة والتأني أثناء القراءة، كان اهتمامي بالجانب السيميائي كبيرا في العمل ومن يعرف المنطقة ودلالات الأسماء التي وردت في الخريطة ثم طريقة رسم الأمكنة بتلك الطريقة سيكتشف بعض الأشياء التي أردت الإشارة إليها. لم أترك عنصر التشويق يتحكم في مسار السرد، لأن الرواية التي تعتمد على العقدة ثم تكشف عن خيوطها في آخر الرواية ستحرق العمل، وسيكون القارئ قد خلص منها تماما، لأن الأحداث كلها تعتمد على تلك العقدة التي لم تعد عقدة في نهاية الرواية. لذلك كنت ألمح إلى القاتل الحقيقي في كل مرة وهو البطل الرئيسي في الرواية (وحيد حمراس) ولكي أوجه القارئ إلى أفكار أخرى، كانت الرتابة في بعض الأحيان ضرورية للعمل لكسر ذلك التسارع ثم إجباره على البحث والتساؤل، لماذا كل هذا التباطؤ وخاصة في الشق الأول من الرواية. كان علي أن أبني القصة حجرة حجرة وتطلّب موضوع التنقيب في الآثار ذلك الوصف وتلك الرتابة ولكن في العمق، كانت تجري تغييرات عميقة وتحولات كبيرة ستتفجر في الشق الثاني من القصة، عاد البطل إلى موطنه ونقب في تاريخه الخاص في نفس الوقت الذي بدأت فيه البعثة الأثرية تنقب عن تاريخ شعبه ووطنه. كان الشق الأول من الرواية مشحونا بالأفكار وتطلب مني ذلك مهلة لتقديمها بما تحتمله الرواية. 

 

حدثنا عن العلاقة بين الحقيقة والخيال. في الرواية يصعب على وحيد حمراس – والقارئ أيضاً – التفرقة بين ما حدث فعلاً وما تتخيله الشخصيات؟ هل هذه وسيلة للتعامل مع الذكريات المؤلمة؟

الوعي واللاوعي يشكلان فكر الإنسان وجوهره، وأهمية اللاوعي تكمن في أفعالنا وأحلامنا وتصرفاتنا، فالعالم كما نعرفه اليوم ليس نتاج وعي فقط، بل تساهم فيه أحلامنا وأساطيرنا بنفس القدر. إن المسخ الثقافي الذي تعاني منه أغلب الشعوب المستضعفة تسبب بأمراض نفسية شوهت الحياة اليومية وسممت الأفكار وأصبح اللاوعي  يشكل خطرا بما يحمله من ضغوطات ومسكوتات لا حدود لها. التعامل مع الحقيقة في بيئة كهذه يفرض قوانين أخرى وطرقا ملتوية، تجعل من الصعب الحفاظ على التوازن النفسي للأفراد، فالبطل هنا مختل لأنه يعاني من آلام لا يمكن الفصح عنها، وفي نفس الوقت لا يمكن إسكاتها فتطفو إلى السطح عن طريق العنف- سواء كان عنفا جسديا أو فكريا- إن العرف السائد هو القانون الذي يحكم المجتمعات التي لا تعترف بحقوق الإنسان، وحيد حمراس لم يفرق بين الحقيقة والخيال لأن الحقيقة كانت أكثر إثارة للصدمة والدهشة من الخيال، كما أنه كان يلجأ إلى الخيال هروبا من الواقع، ولكن في نهاية المطاف ألا يشترك الخيال والحقيقة في الغرابة واللامنطق، إنهما وجهان لعملة واحدة.

 

من هم الكُتاب الذين أثروا فيك كروائي؟

في بداية قراءاتي تأثرت بكتّاب كثر، إلا أنني بدأت أكتشف عالما كبيرا من الكتّاب الكبار كإمبرطو إيكو، الطاهر بن جلون، رشيد بوجدرة، أمين الزاوي، واسيني الأعرج، كتابات غارسيا ماركيز وغيرهم من كتّاب أمريكا اللاتينية. هناك الأدب الإفريقي خصوصا، الذي بدأ يظهر أسماء لامعة كشينوا أشيبي وشيمامند أديشي وغيرهما. تأثرت بالكتّاب التجريبيين كدافيد فوستر والاس وراشتل كوسك وزادي سميث. هناك كتب لي معها علاقة خاصة لا يمكن شرحها ببساطة، كالحلزون العنيد لرشيد بوجدرة، ومقبرة براغ لأمبرطو إيكو، أما الكتب التي شكلت وعيي فتتنوع بين الفلسفة والفكر والأدب.

 

ما هى الكتب التي تقرأها الآن؟ وهل تأثرت قراءتك بطول البقاء في المنزل المصاحب لأزمة الكورونا؟

أقرأ حاليا كتاب الحيوان للجاحظ وكتاب ذاكرة mémoire   لكاتبة أمريكية، وهناك قراءات أخرى معلقة أو متعثرة بسبب المزاج أو الحاجة إلى كتاب آخر. هناك كتب تقرأ على مهل وهناك كتب نلتهمها في جلسات قليلة. ولكنني أفضل تلك التي تتطلب جهدا وصبرا لأنها في الأخير ستكافئنا بطريقتها الخاصة، فلكل كتاب أسلوبه وطريقته في التعاطي مع القارئ، لأن الكتاب كائن حي، ومن اللباقة أن نحسن معاملة الكتب.