حوار مع الكاتبة شهلا العجيلى المرشحة فى القائمة القصيرة

12/04/2016

شهلا العجيلي

أين كنتِ عند الاعلان عن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية؟ وماذا كان رد فعلك؟

 

ليلة إعلان القائمة القصيرة سهرت لوقت متأخّر أدردش مع أصدقائي حول حظوظ الروايات المرشّحة، ونمت لأستيقظ لمتابعة المؤتمر الصحفيّ على تلفزيون عُمان، كنت في بيتي في عمّان- الأردن، وحينما استيقظت كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة، فتحت التلفزيون، فوجدت الإعلاميّ الأستاذ سيّد محمود، والذي تبيّن لي أنّه عضو في لجنة التحكيم، يتحدّث عن روايتي، فعرفت أنّها قد وصلت إلى القائمة القصيرة. طبعاً صحت صيحة الفوز (هيه)، وصفّق الجميع، زوجي وبنتي الصغيرة (4 سنوات). حينما فتحت الباب لابنتي الكبيرة (11 سنة) حينما عادت من مدرستها، بادرتني: ماما، هل وصلت إلى القائمة القصيرة؟ قلت: طبعاً، فصارت تعانقني وتبكي، كنت سعيدة لسبب آخر أيضاً، لأنّني نجوت من العقوبة، كانوا قد اشترطوا في البيت أنّني لو لم أصل للقائمة القصيرة عليّ أن أنفّذ تمرين الضغط (push up) خمسين مرّة!

 

 

ماذا يعنى لك ترشيح روايتك فى القائمة القصيرة للجائزة؟

 

الجوائز بعامة تضع الأعمال بسرعة بين يدي المتلقّي، وما تزال البوكر هي الجائزة الأكثر إثارة للحرارة والتنافس في الساحة الروائيّة العربيّة، ووصول روايتي إلى القائمة القصيرة يعني أنّني في هذا النصّ متمكّنة من أدواتي الفنيّة، وأمتلك رؤية معرفيّة وجماليّة مؤثّرة ومميّزة، وهذا الوصول أمر مهمّ في تاريخي الروائيّ، وسأستند إليه كلّما شعرت باليأس أوالإحباط، ولعلّ التحدّي القادم هو ماذا بعد الجائزة أوالقائمة؟! لابدّ من العمل، عمل أكثر ومسؤوليّات أكبر، فالاستمرار والتجويد والتجاوز ليست أموراً هيّنة على الإطلاق.

 

 

هل لديك طقوس للكتابة؟

 

كان لي طقوس صارمة في الكتابة: صباحات مبكّرة غالباً، مع قهوة، على مكتبي الخاص، الآن مع البحث العلميّ المستمرّ، والعائلة، ومتطلّبات الأطفال، صرت أقتنص أيّة عزلة ممكنة، أنتظر أن ينام الجميع، فيكون ذلك في وقت متأخّر جدّاً، أو قبل أن يستيقظوا في وقت مبكّر جداً. هذا يرهق حقّاً، إذ من الصعب أن تخضع مزاجك الكتابيّ لأوقات الآخرين! أحياناً أحتاج أن أراجع كتابتي في أحد المقاهي في عمّان، أو أن أسافر لبضعة أيّام، وعموماً لا أحتمل وجود كائن يتنفّس إلى جوار شخصيّاتي، لابدّ من سكون مطبق. كنت أكتب على دفاترجميلة أنتقيها بعناية من مكتبات بعيدة تحملني إليها أسفاري، وأستعمل قلم رصاص كأقلام أطفال المدارس وممحاة، أمّا الآن أكتب مباشرة على اللاب توب، ذلك أجدى من أجل الوقت والتنظيم، وربّما أكثر حرفيّة.

 

 

لماذا تكتبين؟ ولمن؟

 

مع تحول الكتابة إلى حرفة بتّ أكتب من أجل الكتابة، فهي مهنتي، هذا عدا عن اللذة، والتحقّق الذي يرافق المراحل كلّها. الكتابة هي التي توازن حياتي في هذا العالم الذي يغرق في القسوة والفوضى. أنا أكتب لمن يمتلك الشجاعة ليقرأ ما قد يغيّر من قناعاته، أوما قد يواجهه بذاته. أعبّر عن مواقفي  بالكتابة المسؤولة، لذلك فالكتابة هي تعبير عن موقفي تجاه العالم، لا تجاه الأشخاص، ولا تكون ردّ فعل آنيّ أو انتقام، هي أعمق من ذلك. الكتابة هي أناي، وحين تتعطّل أتعطّل أنا بوصفي كائناً بشريّاً. حينما يقول لك كاتب إنّ الكتابة فعل حياة، ضدّ الموت، فهو صادق تماماً، إنّها أبعد من الحدث اليوميّ أو من الجغرافيا، أو من الهويّات الضيّقة أو المفروضة أو المتوارثة، بالنسبة للكاتب هي ضميره، ولنتخيّل كاتباً بلا ضمير!

 

 

 

من هم الكتاب الذين أثروا فيك كروائية؟

 

من الظلم أن أذكر كاتباً واحداً، فأنا قارئة قديمة ومكثرة، ومررت بمراحل القراءة كلّها التي يفترض أن يمرّ بها القارئ العربيّ الذي سيحترف الكتابة. نشأت على الشعر العربيّ القديم، وذهبت باتجاه السرد الكلاسيكيّ العربيّ عند نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدّوس،  وعبد السلام العجيلي، وفي هذه الأعمال مشاهد صنعت ذاكرتي مثل، مشهد التلصّص من المشربيّات في ثلاثيّة محفوظ، وفي (المغمورون) للعجيلي أثر لن يفارق وجداني، مثل مشهد الغمر، إذ تعوم الأطباق الخشبيّة فوق الماء الذي سيغمر البيوت بسبب بناء السدّ، ولا تستطيع أيدي أصحابها الوصول إليها، ثمّ نسمع عواء متألّماً لكلب حزين... تأثّرت بتولستوي، بـ (آنا كارنينا)، وبدستويفسكي  في (المقامر)، في حين قرأت (الجريمة والعقاب) في وقت متأخّر في سنوات الجامعة، و بفلوبير في (مدام بوفاري)، ومونتسكيو في (رسائل فارسيّة)، وبهمنجواي في (جنّة عدن)، برامبو في (فصل من الجحيم)، وبإليوت في (أوراق العشب) . أحببت كتب الأخبار العربيّة (الأغاني) و(قطب السرور في أوصاف الخمور)، وبسبب تخصّصي في الأدب قدّر لي أن أقرأ كتباً قد لا يختارها غير المتخصصين، مثلاً رسائل الجاحظ، والمعرّي. يستهويني أدب الرحلات، ثمّة كتاب رائع صدر مؤخّراً بعنوان (عرب البحر) لجوردي ستيفا، بترجمة الدكتور طلعت شاهين، وكذلك المذكّرات والسير مثل (خارج المكان) لإدوارد سعيد. من أحبّ الكتب إلى قلبي (الإلياذة) لهوميروس، إذ فتحت عيني على أصل الثقافة الأوربيّة، وتكوين شخصيّتها، ثمّ تراجيديات سوفوكليس، وخطب شيشرون، وفنّ الشعر لأرسطو، الذي يعدّ إنجيل دارسي الأدب، وبعدها (يهودي مالطا) كريستوفر مارلو، و(هاملت) شكسبير، القراءات المسرحيّة تحتاج وقفة مطوّلة في الكلام عليها. من الأعمال التي أخذتني معها وما تزال (لا أحد ينام في الإسكندريّة) لإبراهيم عبد المجيد، ثمّ أعماله جميعاً، و(رحلة بالدسار) و(سمرقند) و(الهويّات القاتلة) لأمين معلوف، والنوفيلات الرائعة مثل (حرير) (أليخاندرو باريكو)، وراوية الأفلام (إيرنان ريبيرا ليتلير) وحوض السباحة (يوكو أوغاوا)، هي أعمال عالميّة حديثة نسبيّاً... هناك أثر دامغ لكاتب سويديّ اسمه نيكولاس رودستروم، بدا أنّني تأثّرت به في"سماء قريبة من بيتنا". التأثّر يظهر بعد مرور وقت طويل، إذ أكتشف أنّ لعمل ما أثراً في بناء نصّي، أو صناعة الدراما فيه، أو أنّني أكرّر ثيمة قرأتها يوماً في كتاب، وربّما عبارة، أو حركة يد، أو تقطيبة جبين، كما نكتشف لاحقاً أنّ هناك شخصيّات تمشي معنا دائماً، لكن لا نشعر بخطاها إلاّ عندما نكتب.

 

 

إلى أى حد شخصيات الرواية مبنية على شخصيات حقيقية؟

 

غالباً ما يكون هناك مراوحة بين الحقيقيّ والمتخيّل، مع اختلاف النسبة، وطالما ظننت انّني صنعت  شخصيّات خياليّة مئة بالمئة، لأكتشف بعد سنوات، بأنّ بعض تفاصيلها كانت لأفراد حقيقيّيّن مرّوا بحياتي، أو سمعت عنهم، أو قرأت. هذا هو العمل العبقريّ للدماغ البشريّ، يعيد إنتاج التفاصيل، ويتجلّى بالكتابة بخلق جديد مذهل. عموماً أنا أحبّ الشخصيّات المهزومة، التي تبذل جهدها لتكون، لكنّ العالم يخذلها. أتعاطف معها، وأشعر تجاهها بالتقصير. أحبّ الهشاشة المضمرة الحقيقيّة، والأبطال التراجيديين، وأميل إلى النساء المقهورات والقويّات بقدرتهنّ على الصفح، وأفضّل الرجال الذين لم تقف الهزيمة في وجه كرمهم، أولئك القادرون على العطاء، ولا يخشون من البوح الصادق بالحبّ. أمقت الجبناء و البخلاء، وأستمتع بتصويرهم بطريقة دقيقة ومنفّرة! والت وتمان قال في (أوراق العشب): "أنا لا أعزف ألحاناً للمنتصرين فحسب، أعزف أناشيد للمهزومين والقتلى، السقوط مجيد، فالمعارك تخسر بالروح ذاتها التي تُربح بها. ليعش هؤلاء المخفقون، وهؤلاء الذين غاصت مراكبهم في البحر! أفضل وصف لشخصيّاتي هو أنّها شخصيّات فنيّة واقعيّة،  ليست خارقة، ولا أسطوريّة،  شخصيّات تطلّ عليك من الباب المجاور لباب دارك.

 

 

هل انت ايضاً مثل بطلة الرواية جمان مولعة بالجغرافيا – رغم أن دراستك وتخصصك هو الأدب؟ وهل هذا هو السبب فى أن الرواية تنتقل فى أمكنة (وأيضاً أزمنة) متعددة؟

 

أنا مولعة بدراسة تاريخ الظواهر والأشياء، وليس الظواهر الأدبيّة فحسب، فهذا يساعد كثيراً في استشراف القادم، وتمييز ما يسمّى بمزاج المرحلة. لكنني فعلاً بحثت فيالجغرافيا الطبيعيّة والبشريّة، وفي علم المناخ أثناء إعدادي لكتابة الرواية، كان العالم يتحدّث في تلك الفترة عن الحروب وأثرها على التغيّر المناخي، وكنت أحضر ندوات عن ذلك، ثمّ سافرت إلى عدّة أماكن واكتشفت تاريخها المشترك وعلاقتها الجيوسياسيّة بنا في المنطقة العربيّة، ثمّ إنّ الحرب قطّعت أوصال الجغرافيّات المتّصلة، والجغرافيا طالما شكّلت تهديداً سياسيّاً، وهي غالباً ما تحسم المعارك، وهكذا هو التاريخ يمشي في مسارات عريضة متشابهة، ولا يتغيّر كثيراً!